القضية الفلسطينية في المناهج التعليمية التونسيّة؛ جدليّة الحضور والغياب: ممدوح عز الدين تونس
- السؤال الذي أردت الاشتغال عليه على خلفية إقدام عدد من الدول العربية على تعديل مناهجها التربوية في اتجاه التطبيع التربوي مع الكيان الصهيوني هو كالآتي:
هل يمكن الحديث عن وجود تطبيع تربوي في المناهج التعليمية التونسية؟ لا سيّما أنها قد صيغت في عهد النظام البائد، ولم يتمّ تعديلها إلى حدّ الآن، علمًا أنَّ تونس حينما كانت في عهد نظام بن علي مارست تطبيعًا ناعمًا مع إسرائيل، كان من أبرز تجلّياته تدشين مكتب لرعاية المصالح في كلتا البلدين استمرّ من 1996 إلى سنة 2000 حين اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
- المسألة حسّاسة وصعبة لاعتبارات عدة، منها: أنَّه لو كان هناك تطبيعٌ صريح لشهدنا ردّ فعل واضح وعنيف من قبل نقابات التعليم الابتدائي والثانوي التي لا تخفي دعمها للقضية الفلسطينية ورفضها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ثمّ لكانت منظمات المجتمع المدني الرافضة للتطبيع قد نبّهت لذلك وتصدّت له بمختلف الأشكال النضالية الممكنة، كما أنّ نسبة الدراسات الأكاديمية والعلمية -على حدّ علمي- التي تثير وتناقش موضوع التطبيع التربوي في تونس تكاد تكون صفرًا في المائة.
فهل هذا يعني أنّ نظام بن علي لم يجرؤ على الإقدام على اتخاذ هذه الخطوة توقيًّا من عواقبها الخطيرة، والتي أهمها؛ التشكيك في شرعيّته التي طالما بناها على أساس وقوفه جانب الشعب الفلسطيني والقضيّة الفلسطينية، لا سيّما أنّ تونس كانت تحتضن القيادة الفلسطينية والمقاتلين الفلسطينيّين الذين تمّ ترحيلهم إليها إثر خروجهم من بيروت سنة 1982؟
- لهذه الاعتبارات خيّرت أنْ أطرح الموضوع من خلال التساؤلات الآتية:
ما مدى حضور القضية الفلسطينية في برامجنا التعليمية، وضمن أي سياقات تطرح؟ وما الأهداف التي تبنى عليها الدروس التي تعالجها؟ وما أثرها في التلميذ التونسي في تشكيل وعيه ومواقفه الوطنيّة والقوميّة؟
هل تساهم هذه الدروس في تشكيل وعي مقاوم للكيان الصهيوني لدى أبنائنا أم تدفعهم للقبول بالأمر الواقع؛ واقع التطبيع والتسوية مع العدو الصهيوني أو اللامبالاة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات خيّرت اعتماد تقنية تحليل المضمون عبر وصف وتحليل مضمون العبارات والممارسات الخطابيّة بالمنهج الفوكوي؛ وذلك من خلال أركيولوجيا المعرفة والجينالوجيا التي تكشف عن الآليات التي تشتغل بها السلطة داخل المعرفة؛ أي كشف علاقات القوّة داخلها، والبحث عن المسكوت عنه وكشفه.
كما ستتوزّع الورقة على محورين رئيسيّين؛ يتطرّق أوّلهما إلى تحليل جدليّة الحضور والغياب للقضية الفلسطينية في البرامج التعليمية التونسيّة، أمّا المحور الثاني فخصّصته لطرح ملاحظات حول التطبيع اللُّغوي، ختامًا سأصوغ جملةً من التساؤلات.
- القضية الفلسطينيّة في البرامج التعليميّة التونسيّة: حضور الغياب وغياب الحضور، تحليل درس القضية الفلسطينيّة في برنامج التاريخ للسنة التاسعة أساسي كما ورد في الكتاب المدرسي للمواد الاجتماعية:
عندما نتأمّل البرامج التعليميّة التونسيّة نلاحظ الحضور المتواضع للقضية الفلسطينيّة، فهي غائبة في مادّة التربية والتفكير الإسلامي، ومادّة التربية المدنيّة والجغرافيا والفلسفة ومواد اللّغات؛ كالفرنسيّة والإنجليزية، أما في مادّة اللغة العربيّة فنعثر على بعض النصوص النثرية والشعريّة لبعض الأدباء والشعراء الفلسطينييّن، وهي نصوص يتيمة غير مرتبطة بمحاور أو مدارات بحث وتفكير، مثل: محور أدب المقاومة أو محور الأدب الفلسطينيّ الحديث، أما فيما يخصّ مادة التاريخ فإنّنا نعثر على القضيّة الفلسطينيّة في درسين؛ أحدهما في السنة التاسعة أساسي، والثاني في باكالوريا الآداب.
وفيما يلي سأحاول دراسة درس القضيّة الفلسطينيّة في برنامج التاريخ للسنة التاسعة كما ورد في الكتاب المدرسي للمواد الاجتماعية، باعتماد تقنية تحليل المضمون (الفوكوية):
- درس “القضيّة الفلسطينيّة” هو الدرس الثامن في برنامج التاريخ للسنة التاسعة أساسي، ويمتدّ من الصفحة 67 إلى الصفحة 79 بالكتاب المدرسي.
- يبدأ الدرس بمدخل ثمّ نشاط أوّل، بعنوان: “أتبيّن جذور القضيّة الفلسطينيّة“، يحتوي على أربع وثائق، مصحوبة بجملة من التعليمات، تتضمّن أسئلة توجيهيّة.
- النشاط الثاني، يحمل عنوان: “أتعرّف إلى تطوّر الأوضاع بفلسطين بين 1945 و1948“، ويحتوي على سبع وثائق، مصحوبة بتعليمات وفقرة تحت عنوان: “إضاءات“، تضمّ جملة من المعطيات والاستنتاجات تساعد التلميذ على الإجابة.
- النشاط الثالث، بعنوان: “أدرس تطوّر المقاومة الفلسطينيّة للكيان الصهيوني من 1948 إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين“، يحتوي على سبع وثائق، مصحوبة بتعليمات وركن للإضاءات.
- النشاط الرابع يحمل العنوان الآتي: “أتبيّن التحولات التي عرفتها المقاومة منذ الثمانينيات إلى اتفاقية أوسلو سنة 1993“، فيه أربع وثائق، مصحوبة بتعليمات وإضاءات تبرز الأحداث المرتبطة بالقضية الفلسطينيّة منذ نهاية السبعينيات.
- إثر هذه النشاطات نجد في الصفحتين 76 و77 نصًّا مطوّلًا بعنوان: “أستخلص” يحتوي تلخيصًا للدرس، وأهم الاستنتاجات المرتبطة به.
- أثره نجد نشاطًا بعنوان: “أبحث وأتوسّع“، يدعو التلميذ إلى إنجاز بحث حول منظمة التحرير الفلسطينيّة، وينتهي الدرس بنشاط تقييمي في الصفحة 79.
أوّل ما يشد الانتباه منذ مطلع الدرس هو عنوانه: “القضيّة الفلسطينيّة“، في حين أنَّ أغلب الدروس السابقة واللاحقة يكون مرافقًا لعناوينها الفترة الزمنيّة التي تستغرقها أحداث القضيّة التي يتناولها الدرس، نتخذ الدرس التاسع، الذي يلي درس القضيّة الفلسطينيّة مباشرة، كمثال إذ يحمل عنوان: “الحركة الوطنيّة التونسيّة من 1945 إلى 1956“، ويحمل الدرس العاشر عنوان: “تونس من 1956 إلى 1987“.
إنَّ طرح العنوان بهذه الصيغة يوحي لدى التلاميذ أنّ محتوى الدرس يتعرّض لبدايات القضية الفلسطينيّة ومساراتها ثمّ مآلتها، بما في ذلك التوصّل لحل نهائي لهذه القضيّة؛ بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة.
بعد العنوان مباشرة، نكتشف منذ المدخل أنّ الفترة التي يتعرّض لها الدرس تمتدّ من 1945 إلى 1993، ممّا يدفعنا للتساؤل: لماذا لم يكن عنوان الدرس: “القضيّة الفلسطينيّة من 1945 إلى 1993“، كما هو الشأن بالنسبة لسائر الدروس؟
ألا يعني ذلك ضمنيًّا أنَّ سنة 1993، وهي السنة التي تمّ فيها إمضاء اتفاقيّة أوسلو هي سنة الحلّ للقضيّة الفلسطينيّة، كما روّج ذلك المساندون لهذه الاتفاقيّة والداعي للتطبيع مع الكيان الصهيوني في إطار حلّ الدولتين. وبالتالي؛ لا بُدّ من تجاوز حالة العداء مع هذا الكيان، ولا بأس في إقامة علاقات طبيعيّة معه، كما فعل ذلك نظام بن علي، حين قام بتدشين مكتب لرعاية المصالح الإسرائيلية في تونس سنة 1996، وغيرها من العلاقات التجاريّة والسياحية.
والسؤال المحيّر حقًا هو:
لماذا، ونحن في سنة 2019، لا يعلم أبناؤنا شيئًا عن فلسطين منذ 1993 الى الآن؟ لماذا هذا التصحّر المعرفي فيما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة؟ لماذا لم يعدّل هذا الدرس ولم يحيّن إلى حدّ الآن؟
الغريب أنه لا يوجد منذ بداية الدرس إلى نهايته أي ذكر للمجازر الفظيعة التي ارتكبها الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينييّن، سواء قبل 1948، سنة الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الصهيوني، أو بعدها؛ فلا نجد ذكرًا لمجزرة دير ياسين التي وقعت في 9 أبريل 1948، ولا مذبحة صبرا وشاتيلا التي وقعت في 17 سبتمبر 1982، ولا مجزرة جنين في أبريل 2002، ولا مجزرة غزّة، والتي دامت 22 يومًا انطلاقًا من 27 ديسمبر 2008.
كما نلاحظ أنَّ التمشي الذي تمّ اعتماده في صياغة الدرس يقود ضمنيًّا إلى الإقرار بأنَّ اتفاقية أوسلو هي أفضل حل للقضيّة الفلسطينيّة بعلّة فشل المقاومة المسلّحة، وتراجع دعم النظام الرسمي العربي، وانحلال الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالزعامة العالميّة، كما ورد في الصفحة 74 من الكتاب المدرسي، فاتفاقية أوسلو بالنسبة لمَن وقّعها من الفلسطينيّين عبارة عن كوّة صغيرة يعود منها الفلسطينيّون إلى ما تبقّى من وطنهم أفضل من أنْ يبقوا في المنفى إلى أبد الآبدين، رغم أنَّ الأحداث بيّنت فيما بعد خطأ هذا الطرح، كما بيّنت أن خيار المقاومة بكلّ أشكالها أفضل وسيلة لمواجهة الاحتلال وتحقيق الانتصارات، ولعلّ انتصار المقاومة اللبنانيّة سنتي 2000 و2006 أبرز دليل على ذلك.
في الصفحة 75 من الكتاب نجد وثيقتين:
- الأولى تحت عدد (21) عبارة عن رسالة من إسحاق رابين إلى عرفات بتاريخ 10 سبتمبر 1999 (1993)، يقرّ فيها اعتراف حكومته بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني واستعداده لبدء المفاوضات مع منظّمة التحرير في إطار عمليّة السلام في الشرق الأوسط.
- الثانية تحت عدد (22) تحتوي مقتطفات من اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكومة الذاتيّة الفلسطينيّة) الموقّعة في 13 سبتمبر 1993، حيث يقول مطلعها:
“إنّ حكومة دولة إسرائيل وفريق منظمة التحرير الفلسطينيّة… ممثلًا للشعب الفلسطينيّ يتفقان على أنَّ الوقت قد حان لإنهاء عقود من المواجهة والنزاع… ولتحقيق تسوية سلميّة…”.
يصحب هاتان الوثيقتان تعليمات تحتوي ثلاث أسئلة:
- أوّلها: أبرز تأثير الظروف الجديدة الواردة في الإضاءات على المقاومة الفلسطينيّة؟
مع العلم أنَّ ركن الإضاءات يتضمّن أربع تواريخ مرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة منذ نهاية السبعينيات:
– مارس 1978: تاريخ اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان.
– مارس 1979: تاريخ إبرام معاهدة صلح بين النظام المصري وكيان الاحتلال الصهيوني.
– سبتمبر 1982: غزو إسرائيل للبنان وطرد قيادة منظمة التحرير وعناصر المقاومة.
– 1991: انحلال الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتحدة بالزعامة العالميّة.
- أما السؤال الثاني، فقد ورد كالآتي:
بالاعتماد على الوثيقتين (19 – 20) بيّن التطوّر الذي عرفته المقاومة من حيث أهدافها وطرق نضالها؟
مع العلم أنّ الوثيقة عدد (19) تحتوي مقتطفات من قرار المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر في نوفمبر 1988، والذي يؤكد عزم منظمة التحرير الفلسطينيّة على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصّراع العربي الإسرائيلي، والوثيقة عدد (20) تعرض صورة فوتوغرافيّة عن انتفاضة الحجارة انطلاقًا من سنة 1987، وفيها طفل فلسطيني يرشق بالحجارة آليّة عسكريّة صهيونيّة.
- وقد ورد السؤال الثالث كالآتي:
حدّد من خلال الوثيقتين ( 21 – 22) (سابقتي الذكر) نتائج المقاومة السياسيّة.
واضح أنّ هذه الأسئلة موجّهة قصد تثمين اتفاقيّة أوسلو والأطراف التي وقّعت عليها، واعتبارها أفضل الخيارات الممكنة بالنسبة للقيادة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني، إذ ليس في الإمكان أفضل مما كان.
فالسؤال الأوّل يوحي بأنَّ خيار المقاومة المسلّحة أصبح غير مجد، السؤال الثاني يُعدُّ اتفاقيّة أوسلو تطوّرًا للمقاومة من حيث أهدافها وطرق نضالها، والسؤال الثالث يُعدُّ أنَّ التوقيع على الاتفاقيّة مقاومة سياسيّة أفضت إلى الانخراط في عمليّة سلام مع الكيان الصهيوني، وإقامة حكومة ذاتيّة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وبالتالي؛ لا مانع بعد ذلك من الانخراط في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ من أجل إرساء السلام الشامل في المنطقة. هذا التسلسل في تمشّي الدرس نجده في الجزء المخصّص للخلاصات والاستنتاجات، تحديدًا في الصفحة 77.
كما نعثر في الصفحة (72) وتحديدًا في الوثيقة عدد (15) خريطة بعنوان: “فلسطين بعد الحرب العربيّة الصهيونيّة الثانية سنة 1967“، ونجد في مفتاح الخريطة مربعين؛ أحدهما باللون البنّي كتب بجانبه “إسرائيل من سنة 1949 إلى 1967“، ومربّع باللون الأخضر كتب بجانبه “أراضي احتلت منذ 1967“.
ألم يكن من الأصوب كتابة “أراضي احتلت من 1949 الى 1967” بجانب المربّع البنيّ؟ ألا يتطابق هذا مع ما ورد في اتفاقيّة أوسلو، من اعتبار الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة إلى حدود 1967 تابعة لدولة الاحتلال الصهيوني.
عند هذا الحدّ من التحليل؛ فإنّ أهمّ ما يمكن استنتاجه هو أنّ ما جاء في الدرس يتطابق تمامًا مع سياسة بن علي تجاه القضيّة الفلسطينيّة ومساندته لاتفاقيات أوسلو، وتوسيع قنوات التواصل مع الكيان الصهيوني على أكثر من صعيد، لكنّ الأخطر من ذلك والأغرب؛ أنّنا عندما نتصفّح سائر النشاطات والمعلومات الواردة في الدرس نجد تغييبًا متعمّدًا وممنهجًا لأحداث ومعطيات مفصليّة مهمّة في القضيّة الفلسطينيّة لا سيّما المرتبطة بتاريخ تونس الحديث، إذ نلاحظ ما يلي:
- عدم الإشارة إلى التونسيين الذين تطوّعوا للقتال في فلسطين وقاموا بعمليّات فدائية واستشهدوا في سبيلها، سواءً قبل 1948 أو بعدها.
- عدم التعرّض لخطاب الحبيب بورقيبة في أريحا سنة 1965، والأثر الذي أحدثه آنذاك في مسار الصراع العربي الصهيوني.
- عدم الإشارة أنّه عندما طردت قيادة منظمة التحرير وعناصر المقاومة من لبنان إثر اجتياحها من إسرائيل في سبتمبر 1982، توجهوا نحو تونس، واستقرّوا فيها إلى حدود 1994.
- عدم التعرّض إلى هجوم الكيان الصهيوني على تونس وقصف طائراته الحربيّة مقرّ منظمة التحرير الفلسطينيّة في حمّام الشط في 1 أكتوبر 1985، حيث امتزج الدمّ الفلسطيني بالدّم التونسي، وسقط عدد كبير من الشهداء والجرحى التونسيّين.
- عدم الإشارة لحادثة اغتيال إسرائيل للقيادي الفلسطيني خليل الوزير “أبو جهاد” مهندس انتفاضة 1987، في تونس بتاريخ 16 أبريل 1988.
- عدم الإشارة لحادثة اغتيال القيادي صلاح خلف “أبو إياد”، في تونس بتاريخ 14 يناير 1991 على يد عميل الموساد الإسرائيلي “حمزة أبو زيد”.
- عدم الإشارة والإقرار أنَّ نظام بن علي لعب دورًا رئيسيًا في المحادثات السريّة بين منظمة التحرير الفلسطينيّة والكيان الصهيوني، والتي أدّت إلى إعلان المبادئ المتعلّقة بالحكم الذاتي الفلسطيني الموقّعة في أوسلو سبتمبر 1993.
إنّ تغييب هذه المعطيات المهمة وتجاهل جرائم الكيان الصهيوني، التي ارتكبها في حق تونس والشعب التونسي والتي تجعل منه عدوّا مباشرًا ليس للفلسطينيين فقط، بل لكلّ التونسيين، إذ اعتدى على ترابنا وسيادتنا، وقتل مواطنين تونسيين أبرياء؛ عملٌ غيرَ مبرّرٍ ومستراب؛ لأنَّه يمنع الأجيال القادمة من معرفة تاريخها الحقيقي، ومن معرفة أعدائها الحقيقيين الواجب مقاومتهم بكلّ الأشكال المتاحة.
قد يتمّ الاعتراض على جملة الاستنتاجات التي توصّلنا إليها على خلفيّة احتواء الدرس عبارتي “الكيان الصهيوني” و “العدو الصهيوني”، إذ ذكرت عبارة الكيان الصهيوني في الصفحات 71، 76 و77، كما ذكرت عبارة العدو الصهيوني مرة واحدة في الصفحة 77؛ مما قد يوحي بأنَّ واضعي الدرس يتبنّون موقفًا معاديًا للكيان الصهيوني، والإدعاء بخلاف ذلك مغالطة وتجنّي.
وللردّ أقترح الإجابة الآتية:
أولًا: وردت هاتان العبارتان خارج السياق العام للدرس الذي يثمّن اتفاقيّة أوسلو تمشّيًا ومآلات، ويُعدُّ التوقيعُ عليها من جانب القيادة الفلسطينية مقاومة سياسة ونصرًا سياسيًا يشرّع للسّلام، وينهي حالة العداء مع الصهاينة.
ثانيًا: إذا كان الصهاينةُ أعداءً، لماذا تمّ التغاضي عن ذكر الاعتداءات الوحشيّة التي مارسوها على بلادنا؟ وكيف نبرّر إقدام نظام بن علي إثر توقيع اتفاقيّة أوسلو على إقامة علاقات دبلوماسيّة مع هذا الكيان وفتح الباب للتبادل التجاري والسياحي معه؟ في حين أنه من المفترض عدوّ لطّخت يداه بدماء الشعب التونسي والفلسطينيّ، ولم يعتذر إلى حدّ الآن بل على العكس تمامًا يتبجّح بجرائمه ويتمادى فيها.
ثالثًا: إنَّ إدراج هاتين العبارتين وغيرها كعبارة الاحتلال الصهيوني (ص 67) قد تكون تمويهًا حتّى يظن المتلقي؛ الأستاذ والتلميذ وكلّ مَنْ يطلع على الدرس، بأنَّ النظام يقف إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وهذا ربما يبرّر عدم الانتباه إلى شبهة التطبيع في هذا الدرس.
- ملاحظات حول التطبيع اللّغوي:
سأحاول في هذا الجزء من التحليل إلقاء الضوء على عبارات يتم استخدامها بكثافة بعد اتفاقية أوسلو، وتهدف إلى تغيير صورة “الآخر الإسرائيلي” حسب مقتضيات هذه الاتفاقية.
لقد كان “الإسرائيلي” سابقًا يتحدّد من خلال العبارات الآتية: “الكيان الصهيوني، العدو الصهيوني، الكفاح المسلّح، الثورة، قوى الإمبريالية، الأنظمة الرجعيّة، الجماهير، الانتصار، التحرير، تطبيق حقّ العودة، الميثاق، الانتفاضة”.
وفي مقابل غياب المفاهيم والتوصيفات السابقة، وما كان يؤطرها من تصورات وسياقات تعبيرية حلّت مفاهيم جديدة طغت عليها حمولتها السياسية، وأكثر تلك التعابير والمفاهيم تداولًا: “دولة إسرائيل، شريك السّلام، المفاوضات، المجتمع الدولي، المجتمع المدني، المنظمات غير الحكومية، المقاومة الشعبية يُقصد بها شكل واحد هو المقاومة اللاعنفيّة، الحلّ العادل لقضيّة اللاجئين”.
– استخدمت القيادة الفلسطينية مصطلح مستوطنة لوصف التجمّعات الصهيونيّة في الأرض الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما تمَّ وصف “التجمعات الإسرائيلية” الأخرى في فلسطين التاريخية على أنّها مدن وبلدات، في حين تعد قوى المعارضة لاتفاقيّة أوسلو أنّ كلّ التجمعات السكّانية الصهيونيّة أينما كانت ليست سوى “مغتصبات“.
– هناك إقصاء متعمّد لمصطلح “فلسطين المحتلّة“، ومصطلح “الأرض الفلسطينيّة المحتلّة“، ليتمّ تداول مصطلح “السيطرة“.
– تداول الأسماء الإسرائيلية للقرى والمدن الفلسطينيّة المحتلّة عوض أسمائها الفلسطينيّة الأصلية مثل “تل أبيب” بدل “تلّ الربيع“.
– وبطبيعة الحال تداول مصطلح التطبيع بدل مقاومة الاحتلال.
خاتمة:
في نهاية هذه الورقة سأطرح عددًا من الأسئلة التي تبحث إلى حدّ الآن عن أجوبة:
- أولًا: لماذا ونحن في السنة الثامنة بعد سقوط نظام بن علي لم يصدر إلى حدّ الآن قانونًا يجرّم التطبيع؟
- ثانيًا: متى سيتمّ إصلاح البرامج التعليميّة التي أصبحت غير وظيفيّة وغيد (وغير) مجدية، إذ ليس من المعقول ألاّ يعرف أبناؤنا موقع فلسطين على الخريطة، ويجهلون أن الكيان الصهيوني اعتدى على بلادنا وقتل تونسيين أبرياء مثلما فعلت ذلك سابقًا فرنسا حين أغارت بعد الاستقلال على ساقية سيدي يوسف، حيث امتزج الدّم التونسي بالدمّ الجزائري؟
- ثالثًا: متى سيتمّ القيام بإصلاحات جريئة للمدرسة التونسيّة التي أصبحت فضاءً غيرَ مُغرٍ وطارد لأبنائنا، حيث يتسرّب سنويًا ما يقارب 110 ألف تلميذ، نصفهم لم تتجاوز أعمارهم 16 عامًا؟
- رابعًا: متى نصوغ استراتيجيات تربويّة تبني مواطنًا معتزًّا بأصله وبهويّته وانتماءاته، مقاومًا لكلّ أشكال الظلم والاضطهاد والقهر والاستغلال والتبعيّة والهيمنة والتردّي والابتذال؟
- المرجع: بوابة الهدف