المفهوم الصحيح لمعنى الحرية: د. محمد رمضان

الصراع بين الحرية والعبودية، صراع قديم في تاريخ الإنسانية، بل هو يكاد يكون أول صراع على وجه الأرض عرفه الإنسان، فمن أجل الحرية خاضت الشعوب معارك عديدة، وفي سبيل الحرية تدفع الشعوب راضية شهداءها وأنفس أموالها.
وفي حضارتنا أروع الأمثلة على هذا الصراع، فليست معارك بدر وأحد وهوازن ومؤتة، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا صراعاً مريراً دامياً من أجل الحرية! حرية العقيدة التي أبى الوثنيون على المسلمين أن ينعموا بها، فيعبدوا الله وحده لا شريك له، وحرية الشعب في خلقه وعقله ومعيشته وليس معاركنا بعد ذلك في القادسية واليرموك، وفي الإسكندرية وفي القيروان وبواتيه، إلا معارك خاضتها أمتنا في سبيل التحرير.. تحرير الشعوب من جهالتها وفوضاها، وتحرير الجماهير من استبداد الظالمين والمسرفين بشؤونها وأرزاقها وكرامتها.
وليست معاركنا في الحروب الصليبية، إلا معارك للحرية خضناها دفاعا عن أوطاننا وحضارتنا، من غزوات الغربيين الذين لن يشنوها إلا طمعا في أموالنا وأوطاننا وخيراتنا.
وليست معاركنا في العصر الحديث، في فلسطين، وفي وادي النيل والرافدين، وفي روابي ميسلون، وفي المغرب العربي، وفي كل أرض عربية مسلمة، تدفقت دماء الشهداء على أرضها، وثارت كتائب الأبطال في وجه الظلم والطغيان، تتسلم أرضنا من احتلال الغاصبين ولتسلم كرامتنا من المهانة.
هذه هي الحرية السياسية، ووراء هذه الحرية حريات كثيرة، هي حرية الفكر والعلم، وحرية الرزق والعمل، وحرية الحكم والإدارة، فتأسيس المدارس والمعاهد معركة ضد الجهل والخرافة، وإنشاء المشافي والملاجئ، معركة ضد المرض والتشرد، وقوانين التكافل الاجتماعي، معركة ضد الفقر والبؤس.
والحرية ككل معنى كريم، عرضة للتلاعب والتحريف، إن الحرية عند الفرنسيين، هي إذلال المغاربة العرب المسلمين، وإزهاق أرواحهم ونهب ثرواتهم، والحرية عند الإنجليز هي الاحتلال في وادي النيل، والعدوان على واحة البريمي، والاستغلال في عدن والإمارات العربية في الخليج العربي.
وكما أسيء استغلال الحرية عند الغربيين، أسيء فهمها عند كثير من أبنائنا تلامذة الغربيين.. فالحرية الشخصية عند بعضهم، هي أن تعمل ما تشاء، وترتكب من المنكرات ما تريد، دون أن تحد تصرفاتك آداب المجتمع، أو قوانين الدولة أو تعاليم الدين.. والحرية الفكرية عند آخرين، هي أن تجهر بشتم عقيدة أمتك، والاستخفاف بأديانها وكتبها المقدسة، فإن لم تفعل ذلك وأنت تلميذ في الجامعة أو أستاذ الكلية، كنت جامدا رجعيا، لا تفهم الحرية وتؤمن بها.
والحرية الصحفية عند طائفة أخرى، أن تشتم خصومك السياسيين وتنعتهم بالخيانة والسرقة والتآمر والإجرام، فإذا حيل بينك وبين ذلك كان عدوانا على الفكر، وحربا على الصحافة، وقيدا للقلم.
هذه مفاهيم خاطئة للحرية، نشأ عنها ما نراه من فوضى وفساد في حياتنا السياسية والأخلاقية، يجب أن نفرق بين الحرية والفوضى، فالحرية استعمال حقك بحيث لا يطغى على حق الآخرين، والفوضى هي طغيان حقك على حق الآخرين، ولضمان الحرية تشرع القوانين والأنظمة، وهذا ما حدث في عام 1928م، فقد عقد مؤتمر مكافحة المسكرات في فيينا، وكان مما قررته اللجنة الاجتماعية، مطالبة الحكومات بعقوبة شارب الخمر بعقوبة بدنية إذا سكر وأصبح ثملا.. وعللت ذلك بقولها: ليست الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء، بل إنّ تقييد حرية الفرد لضمان حرية المجتمع، هو المفهوم الصحيح لمعنى الحرية.
أما بعد، فإن مجتمعاتنا الحاضرة بحاجة إلى من يضبط لها أمرها، وإن ذلك أمانة في أعناق العلماء والمفكرين والمصلحين (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، “آل عمران: 104”.